سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
قال الله تعالى: {سأصليه سقر} أي سأغمره فيها من جميع جهاته, ثم قال تعالى: {وما أدراك ما سقر} وهذا تهويل لأمرها وتفخيم, ثم فسر ذلك بقوله تعالى: {لا تبقي ولا تذر} أي تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم ثم تبدل غير ذلك, وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون, قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهم.
وقوله تعالى: {لواحة للبشر} قال مجاهد أي للجلد, وقال أبو رزين: تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل, وقال زيد بن أسلم: تلوح أجسادهم عليها. وقال قتادة: {لواحة للبشر} أي حراقة للجلد وقال ابن عباس: تحرق بشرة الإنسان. وقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} أي من مقدمي الزبانية عظيم خلقهم غليظ خلقهم.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, حدثنا ابن أبي زائدة, أخبرني حارث عن عامر عن البراء في قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} قال: إن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال: الله ورسوله أعلم, فجاء الرجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذ {عليها تسعة عشر} فأخبر أصحابه وقال: «ادعهم أما إني سائلهم عن تربة الجنة إن أتوني, أما إنها درمكة بيضاء» فجاؤوه فسألوه عن خزنة جهنم فأهوى بأصابع كفيه مرتين وأمسك الإبهام في الثانية ثم قال: «أخبروني عن تربة الجنة» فقالوا: أخبرهم يا ابن سلام, فقال: كأنها خبزة بيضاء: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الخبز إنما يكون من الدرمك» هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء والمشهور عن جابر بن عبد الله كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا منده, حدثنا أحمد بن عبدة, أخبرنا سفيان ويحيى بن حكيم, حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم. فقال: «بأي شيء ؟» قال: سألتهم يهود هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار ؟ قالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفغلب قوم يسألون عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ علي بأعداء الله لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة» فأرسل إليهم فدعاهم قالوا: يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار ؟ قال: «هكذا» وطبق كفيه ثم طبق كفيه مرتين وعقد واحدة وقال لأصحابه: «إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدرمك» فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تربة الجنة ؟» فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: خبزة يا أبا القاسم. فقال: «الخبز من الدرمك» وهكذا رواه الترمذي عند هذه الاَية عن ابن أبي عمر عن سفيان به, وقال هو والبزار لا يعرف إلا من حديث مجالد, وقد رواه الإمام أحمد عن علي بن المديني عن سفيان بنقصه الدرمك فقط.
** وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النّارِ إِلاّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً لّلّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهَـَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاّ ذِكْرَىَ لِلْبَشَرِ * كَلاّ وَالْقَمَرِ * وَاللّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ * إِنّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدّمَ أَوْ يَتَأَخّرَ
يقول تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار} أي خزانها {إلا ملائكة} زبانية غلاظاً شداداً, وذلك رد على مشركي قريش حين ذكروا عدد الخزنة فقال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم, فقال الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون, وقد قيل إن أبا الأشدين واسمه كلدة بن أسيد بن خلف قال: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر إعجاباً منه بنفسه, وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه, قال السهيلي وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته, وقال إن صرعتني آمنت بك, فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مراراً فلم يؤمن, قال وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. (قلت): ولا منافاة بين ما ذكراه والله أعلم.
وقوله تعالى: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختباراً منا للناس {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} أي يعلمون أن هذا الرسول حق فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} أي إلى إيمانهم أي بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض} أي من المنافقين {والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا ههنا ؟ قال الله تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} أي من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام ويتزلزل عند آخرين, وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.